العالم الحر.. والحاجة إلى زعيم
من هو زعيم العالم الحر؟ السؤال يبدو مهماً، لكنني بدأت أتساءل: ما إذا كان من الأفضل تركه دون إجابة. لم يعد الرئيس الأميركي خياراً واضحاً حتى استراتيجية الأمن القومي الأميركية الجديدة، المليئة بعبارات رنانة مثل «العالم كله مرفوع بتجديد أميركا وعودة القيادة الأميركية»، فهي تعترف بالمنافسة المتزايدة بين القوى. وبالطبع، فإن شعار «أميركا أولاً» هو شعار زعيم وطني وليس عالمياً.
فإذا لم يكن دونالد ترامب، فمن يكون مؤهلاً لهذه العمل؟ دعونا أولاً نستعرض تاريخ اللقب.
إن أصل مصطلح «زعيم العالم الحر» غير مؤكد إلى حد ما. وقد تتبع «دومينيك تيرني» من مجلة «ذي أتلانتيك» تاريخ هذا المصطلح، وصولاً إلى مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز عام 1948، حيث دعت الخبيرة الاقتصادية «باربارا وارد» الولايات المتحدة لقيادة الغرب في محاربة التهديد الشيوعي. لكن البحث عن طريق أداة «كتب جوجل» يشير إلى أن هذا اللقب استخدم للمرة الأولى خلال الحرب العالمية الأولى، وظهر بشكل منتظم في الكتب باللغة الإنجليزية منذ أواخر الثلاثينيات. وعلى أي حال، فقد زاد استخدامه في ذروة الحرب الباردة في مطلع الستينيات (عندما بدأ الزعيم السوفييتي نيكيتا خروشوف الإشارة إلى «العالم الحر» بسخرية شديدة)، ثم تراجع في منتصف السبعينيات، ثم استرد مكانته مرة أخرى خلال انهيار الاتحاد السوفييتي وحتى ذروته الأخيرة في عام 2007، مباشرة قبل الأزمة المالية العالمية.
ولأنه كان ينطبق تماماً على رئيس الولايات المتحدة، فقد اكتسب اللقب نكهة ساخرة منذ انتخاب ترامب، الذي تشير الدراسات إلى أنه غير موثوق به على نطاق واسع في الدول الديمقراطية. ونتيجة لذلك، كان بعض النقاد يناقشون ما إذا كان هناك سياسي أكثر احتراماً على المستوى العالمي، مثل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بإمكانه أن يتولى هذا الدور. وحتى شهر سبتمبر الماضي، كانت هيلاري كلينتون تصفها بأنها «أهم زعيم في العالم الحر الآن». ورغم ذلك، فإن ميركل ربما لا تناسب اللقب. فبعد أن أضعفتها الانتخابات الأخيرة، وجدت نفسها متورطة في أطول محادثات ائتلاف في تاريخ ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. وحتى إذا عادت إلى القمة بحلول عيد الفصح، فإن القيادة العالمية ستكون بعيدة تماماً عن ذهنها فيما تضطلع بآخر ولاية لها في السلطة، كما أنها ليس لديها من يخلفها في حزبها. وإلى جانب ذلك، فقد كانت دائماً تبدي مزيداً من الاهتمام بتشكيل الاتحاد الأوروبي لصالح ألمانيا أكثر من قيادة العالم، سواء كان حراً أو غير ذلك.
أما سائر القادة الأوروبيين فإنهم غير مؤهلين للقيام بهذا الدور، أيضاً. وجميعهم تقريباً يقودون ائتلافات غير مستقرة تم تشكيلها بشق الأنفس ولديها أجندات تركز على القضايا الداخلية، في حين أن الآخرين – ومعظمهم في أوروبا الشرقية - ليسوا مهتمين بأن يكونوا جزءاً من أي نظام ليبرالي. والاستثناء الوحيد الملحوظ هو الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون»، الذي يطلق عليه بشكل ساخر اسم «جوبيتر» (كوكب المشتري) ويقارنه مواطنوه بـ(إله الشمس)، لكن ماكرون، البالغ من العمر أربعين عاماً، ولا يزال في عامه الأول كمسؤول منتخب، لم يثبت نفسه بعد. وعلاوة على ذلك، فإن فرنسا كانت في حالة ركود لفترة طويلة ولديها مشكلات اقتصادية ومؤسسية كثيرة جداً لكي تكون زعيمة سياسية ذات مصداقية. ومن الممكن أن يجرب كبار مسؤولي الاتحاد الأوروبي حظهم. فالمشروع الأوروبي يجمع بين معظم الديمقراطيات الراسخة، وهو أكبر كتلة تجارية في العالم، ولديه سجل حافل من الدفاع عن القيم الليبرالية. لكن رئيس المفوضية الأوروبية «جان كلود يونكر»، ورئيس المجلس الأوروبي «دونالد توسك»، إلى جانب كونهما زوجاً كوميدياً إلى حد ما، فقد أثبتا عجزهما حتى في التقريب بين أعضاء الاتحاد الأوروبي. إنهما مفاوضان وصانعا تسويات، وليس قادة. والاتحاد الأوروبي، بكل ما لديه من قوة اقتصادية، هو مشروع سلام، لذا فإن دوره في حل الصراعات العالمية سيظل ضئيلاً.
ولكن من الممكن اقتراح رئيس وزراء كندا «جوستين ترودو». فهو المفضل الليبرالي، الذي وصفته مجلة «رولينج ستون» الأميركية بأنه «أفضل أمل للعالم الحر». وهو يؤدي دوره، مؤكدة على الفروق بينه وبين ترامب فيما يتعلق بالهجرة والتغير المناخي والمساواة بين الجنسين. كما أنه عزز الإنفاق العسكري لكندا. لكنه لن يكون من السهل بالنسبة لكندا أن تخرج من ظل الولايات المتحدة، وترودو لا يحظى بشعبية على وجه الخصوص بين الكنديين (فقد انخفضت نسبة قبوله إلى أقل من 50%).
ولكن لا يزال هناك عالم حر، حيث ينتخب المواطنون القادة السياسيين بدلاً من تحمل طرق استبدادية كما هو الحال في الصين أو روسيا، لانتقال السلطة. ورغم ذلك، يبدو أنه ليس لدى هذا العالم زعيم موثوق به - زعيم قوي وملتزم بالقيم الجذابة الواضحة.
وعلاوة على ذلك، من الصعب معرفة من أين سيأتي هذا الزعيم. فالولايات المتحدة سينظر إليها بعدم ثقة في ظل اتجاهات الإدارة الحالية، وقيمها في تغير مستمر، ومن الصعب على الغرباء فهمها، كما أن قوتها العسكرية ليست بالضرورة ذات صلة بالصراعات الحديثة، كما أثبتت أزمة اللاجئين القادمين من الشرق الأوسط إلى أوروبا. أما ألمانيا، فهي مثقلة بتاريخها وتجمعها تقاليد مجتمعية متجددة، حيث من غير المرجح أن يزدهر السياسيون المتعطشون للقيادة. والسؤال المطروح هو ما إذا كان العالم الحر بحاجة إلى زعيم. ربما يتطلب الطريق نحو المستقبل قرارات وتسويات جماعية، وشمولية وتوافقاً في الآراء، ومفاوضات ونقاشاً متحضراً. هذا يبدو مملاً، وربما ضعيفاً، وقد تظهر النتائج في كثير من الأحيان دون المستوى الأمثل، لكن الحرية والقيادة القوية كانا دائماً على خلاف. والقوة الناعمة الهادئة، كتلك التي تمارسها البلدان الأوروبية وكندا واليابان، ربما تعمل بشكل أفضل كإعلان للديمقراطية أكثر من تأكيد الولايات المتحدة لذاتها منذ نهاية الحرب الباردة.
ليونيد بيرشديسكي
كاتب روسي مقيم في برلين
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»